فصل: تفسير الآية رقم (61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسارعون فِى الخيرات‏}‏ والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏ فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماءً إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏ الآية ‏{‏وَهُمْ لَهَا‏}‏ أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سابقون‏}‏ وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال‏:‏ سبقت إلى كذا ولكذا، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها‏.‏

وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيداً للجملة الأولى، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة، وحسن زيادتها كون العامل فرعياً وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضاً وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يد ما قيل‏:‏ إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال‏:‏ هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف‏.‏

وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير ‏{‏لَهَا‏}‏ لها أيضاً واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده، والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثوب أو إلى الجنة، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون ‏{‏لَهَا‏}‏ خبر المبتدأ و‏{‏سابقون‏}‏ خبراً بعد خبر، ومعنى ‏{‏هُمْ لَهَا‏}‏ أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، وهذا كقولك‏:‏ لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره‏:‏ أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله‏:‏ مشكلات أعضلت ودهت *** يا رسول الله أنت لها

ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل ‏{‏لَهَا‏}‏ خبراً وإن لم يكن ظاهراً في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي «البحر» نقلاً عنه أن المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقاً للآية المتقدمة‏.‏ ومن الناس من زعم أن ضمير ‏{‏لَهَا‏}‏ للجنة‏.‏ ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى‏.‏ وقرأ الحر النحوي ‏{‏يسارعون‏}‏ مضارع أسرع يقال‏:‏ أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و‏{‏يسارعون‏}‏ كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ من لم يستطع القيام فليصل قاعداً ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا كتاب *يَنطِقُ بالحق‏}‏ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف فهو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏ و‏{‏الحق‏}‏ المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتاً ووصفاً ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول، وأدون منه ما قيل‏:‏ إن المراد به القرآن الكريم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق، وجوز أن يكون تقريراً لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناءً على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا‏}‏ إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتاباً ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 66‏]‏ الخ، وقيل‏:‏ الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقاً وروي ذلك عن مجاهد، وقيل‏:‏ إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة، وقيل‏:‏ إلى الدين بجملته، وقيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأول أظهر ‏{‏وَلَهُمْ أعمال‏}‏ سيئة كثيرة ‏{‏مِن دُونِ ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وأن ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى لهم أعمال دون الكفر‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن قتادة أن ‏{‏ذلك‏}‏ كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد ما وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم ‏{‏هُمْ لَهَا عاملون‏}‏ أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها و‏{‏عَامِلُونَ‏}‏ عامل في الضمير قبله واللام للتقوية، هذا وقال أبو مسلم‏:‏ إن الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ‏}‏ الخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم‏:‏ ولا نكلف نفساً إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفى عليهم ثواب أعمالهم، ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 36‏]‏ فكأنه عز وجل قال‏:‏ وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضاً من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه انتهى، قال الإمام‏:‏ وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصاً وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر، و‏{‏هذا‏}‏ على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى، ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب‏}‏ ‏{‏حتى‏}‏ على ما في «الكشاف» هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل‏:‏ لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا الخ، وقال ابن عطية‏:‏ هي ابتداء لا غير، و‏{‏إِذَا‏}‏ الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لـ ‏{‏عاملون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 63‏]‏ وفيه نظر، و‏{‏إِذَا‏}‏ شرطية شرطها ‏{‏أَخَذْنَا‏}‏ وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ‏}‏ وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء، وقال الحوفي‏:‏ حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية ‏{‏أَخَذْنَا‏}‏ انتهى‏.‏

وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل، والمترف المتوسع في النعمة‏.‏ والمراد بالعذاب ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وقتادة، وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم‏.‏ والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأ إذا صاح وجأر الرجل إلى الله تعالى إذ تضرع بالدعاء كما في «الصحاح»‏.‏ وفي الأساس جأر الداعي إلى الله تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما مطلقاً أو باستغاثة‏.‏ وضميرا الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في ‏{‏مُتْرَفِيهِمْ وَلَهُمْ وَ ‏{‏قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 63‏]‏ وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي منهم بعد أخذ المترفين بالقتل‏.‏ قال ابن جريج المعذبون قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا‏.‏ وفي إنسان العيون أو قريشاً ناحوا على قتلاهم في بدر شهراً وجز نساؤهم شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز‏.‏ وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال‏:‏ ‏"‏ اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف ‏"‏ فاستجيب له عليه الصلاة والسلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز‏.‏

وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة‏.‏ وفيها أيضاً ما يدل على أنه كان قبلها‏.‏ ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين‏.‏ وسيأتي ذلك قريباً إن شاء الله تعالى، وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى، وقيل‏:‏ المرادب العذاب عذاب الآخرة، وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 76‏]‏ فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتماً وأما عذاب الجوع فإن قريشاً وإن تضرعوا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك انتهى، وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز ‏{‏حتى‏}‏ غاية لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ اليوم‏}‏ على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك، والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم، والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم، والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ إن ذلك لتهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار؛ والمراد بالقول على ما قيل‏:‏ ما كان بلسان الحال كما في قوله‏:‏ امتلأ الحوض وقال قطني *** وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من الله تعالى وإما من الملائكة عليهم السلام، والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم أسماعهم إياه لا يخلو عن شيء، وتقديره فعل الأمر مسنداً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيد جداً، ومن الناس من جوز جون القول المقدر جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ الشرطية وحينئذٍ يكون ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ قيداً للشرط أو بدلاً من إذا الأولى، وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون ‏{‏إِذَا‏}‏ ظرفية أو فجائية حينئذٍ، ولم يجوز جعل النهي المذكور جواباً لخلوه عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك‏.‏ وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه؛ ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا‏.‏ وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قلبه تعالى ولا سياقه

‏[‏بم فإن قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل، وقد يقال‏:‏ المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمراً عظيماً وإثماً كبيراً لا يدفعه ذلك، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب ‏{‏فَكُنْتُمْ‏}‏ عند تلاوتها ‏{‏على أعقابكم تَنكِصُونَ‏}‏ أي تعرضون عن سماعها أشد الأعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها، والنكوص الرجوع، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، وجعل بعضهم التقييد بالاعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوس الرجوع قهقري وعلى الأعقاب، وأياً ما كان فهو مستعار للأعراض‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏ أي بالبيت‏.‏ والباء للسببية‏.‏ وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين، وقريب منه كون الضمير للحرم، وقال في البحر‏:‏ الضمير عائد على المصدر الدال عليه ‏{‏تنكصون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 66‏]‏ وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالاً‏.‏ واعترض عليه بما فيه بحث‏.‏ وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسنه أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 66‏]‏ دلالة عليه عليه الصلاة والسلام، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازاً عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفاً، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سامرا‏}‏ أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه؛ وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً، والمعنى على ذلك وإن لم يعلق به ‏{‏بِهِ‏}‏ ويجوز على تقدير تعلقه بسامراً عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به، وقيل‏:‏ هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه، ونصب «سامراً» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر، وقيل‏:‏ هو مصدر وقع حالاً على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله؛ ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة‏.‏

والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته، وفي البحر هو ما يقع على السجر من صوء القمر، وقال الراغب‏:‏ هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل‏.‏ وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوباً بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏.‏ وابن عباس‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وعكرمة‏.‏ والزعفراني‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو «سمراً» بضم السين وسد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضاً‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وأبو نهيك «سماراً» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بن عباسلأتهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة‏.‏

وجاء الهجر بمعنى الهذيان كما في الصحاح يقال‏:‏ هجر المريض يهجر هجراً إذا هذي، وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو أصحابه رضي الله تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك‏.‏

وفي الدر المصون ان ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين‏.‏

وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح، قال الراغب‏:‏ الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد‏.‏ وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذي والهجر بالضم اسم ومصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى أهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس‏.‏ وابن محيصن‏.‏ ونافع‏.‏ وحميد ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع‏.‏

وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏.‏ وابن عباس أيضاً‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم، وعكرمة‏.‏ وأبو نهيك‏.‏ وابن محيصن أيضاً‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه من مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول‏}‏ الهمزة لانكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوس والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به، و«أم» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ جَاءهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاولين‏}‏ منقطعة، وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر، والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وأن مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه، وقيل‏:‏ المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين حين خافوا الله تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآباءهم المؤمنون كاسمعيل عليه السلام‏.‏ وعدنان وقحطان، وكأن وصفهم بالأولين على هذا لإخراج الأقربين‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ لا تسبوا مضر‏.‏ وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلماً ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما ‏"‏ وروي أن ضبة بن أدكان مسلماً وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما السلام‏.‏

وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا، وإن جعلت الاعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكماً اه فتدبر، ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى الأمن غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه عن الوجه الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ‏}‏ اضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر، والهمزة لإنكار الوقوع أيضاً أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام‏.‏

وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلى الله عليه وسلم خطب بمحضر رؤساء مضر‏.‏ وقريش فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع اسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضننة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم أن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبدل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل‏.‏

وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلى الله عليه وسلم بغاية الكمال وإلا لا نكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال‏.‏

‏{‏فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم السلام فيكف ينكرونه، واللام للتقوية، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلاً وأثقبهم رأياً وأوفرهم رزانة، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما بينه شيخ الإسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاءهُمْ بالحق‏}‏ اضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعمو في حق القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الدي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن‏.‏

‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون‏}‏ لما في جبلتهم من كمال الزيغ والإنحراف، والظاهر أن الضمائر لقريش، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذراً من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق، فلا يرد ما قيل‏:‏ إن من أحب شيئاً كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة، وقال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد، وكذا ما اختاره من كون ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ للناس كافة لا لقريش فقط فيكون الكلام نظير قوله تعالى ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ وقد يقال‏:‏ حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة ان الحق الثاني عين الحق الأول، وأظهر في مقام الاضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار كارهون، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ‏}‏ الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازياً، وقيل مآل المعنى لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به ‏{‏لَفَسَدَتِ السماوات والارض وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام ما أرسل به من عنده، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازاً عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقاً لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئاً لا يمكن خلافه أصلاً فلا فائدة لهم في هذه الكراهة‏.‏

واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث، وكذا ما قيل‏:‏ إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشاً كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقاً أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقاً بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن وإلا به ولا يخلو عن حسن‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحق هو الله تعالى‏.‏

وقد أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن أبي صالح‏.‏ وحكاه بعضهم عن ابن جريج‏.‏ والزمخشري عن قتادة‏.‏ والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلهاً فتفسد السماوات والأرض‏.‏ وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه‏.‏ وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه‏.‏ ولعل الكلام عليه اعتراض أيضاً للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعاً فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة‏.‏ وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى‏.‏

وقرأ ابن وثاب ‏{‏وَلَوِ اتبع‏}‏ بضم الواو ‏{‏بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ‏}‏ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالأعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل اقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول ‏{‏فَهُمُ‏}‏ بما فعلوا من النكوس ‏{‏عَن ذِكْرِهِمْ‏}‏ أي فخرهم وشرفهم خاصة ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به‏.‏ وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع‏.‏ والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الاتيان بذكرهم، ومن فسر ‏{‏الحق‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاءهُمْ بالحق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ بالقرآن الكريم قال هنا‏:‏ في إسناد الاتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عز وجل‏.‏ وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى الله عليه وسلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المشرفين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 168-169‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ بل أتيناهم الكاتب الذي تمنوه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ‏.‏

وأيد بقراءة عيسى ‏{‏بذكراهم‏}‏ بألف التأنيث، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الاعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في السناعة والقباحة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالاعتراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالاعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحق‏.‏ وعيسى بن عمر‏.‏ ويونس عن أبي عمرو ‏{‏بَلِ‏}‏ بتاء المتكلم، وابن أبي إسحق‏.‏ وعيسى أيضاً‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن قطيب‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏بَلِ‏}‏ بتاء الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبو عمرو في رواية ‏{‏الذين ءاتيناهم‏}‏ بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏نذكرهم‏}‏ بالنون مضارع ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏البنون أَمْ تَسْئَلُهُمْ‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ به جَنَّةُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ فهو انتقال إلى توبيخ آخر، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة ‏{‏خَرْجاً‏}‏ أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ‏}‏ أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفى السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى‏.‏ و‏{‏الخرج‏}‏ بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عز وجل، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوي بينهما بعضهم‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏خَرْجاً فَخَرَجَ‏}‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏خَرْجاً فَخَرَاجُ‏}‏ للمشاكلة‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ ‏{‏المجرمون فَخَرَجَ‏}‏ وكأن اختيار ‏{‏خراجاً‏}‏ في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار ‏{‏لَكَ خَرْجاً‏}‏ في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيى القليل منه عز وجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏ تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيراً من رزق غيره‏.‏

واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام، قال الزمخشري‏:‏ ولقد ألزمهم عز وجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهر أنيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر اه‏.‏ وهو من الحسن بمكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعاً لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولاً أولياً ‏{‏عَنِ الصراط‏}‏ المستقيم الذي تدعو إليه ‏{‏لناكبون‏}‏ أي لعادلون وقيل‏:‏ المراد بالصراط جنسه أي أنهم عن جنس الصراط فضلاً عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبىء عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط ولو كان معوجاً، وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم، وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم أن المراد به هنا الصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ‏}‏ أي من سوء حال، قيل‏:‏ هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بارجاع مترفيهم إليهم ‏{‏لَّلَجُّواْ‏}‏ لتمادوا ‏{‏فِي طغيانهم‏}‏ افراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا، وقيل‏:‏ هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الاضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل‏:‏ المراد بالضر عذاب الآخرة أي أنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه‏.‏

واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنه مروى عن ابن عباس‏.‏ وابن جريج، وقد دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت سلى جزور فقال‏:‏ «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ودعا بذلك أيضاً بالمدينة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام مكث شهراً إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله «سمع الله لمن حمده» يقول‏:‏ «اللهم انج الوليد بن الوليد‏.‏ وسلمة بن هشام‏.‏ وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم أشدد وطأتك» الخ، وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته، والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم، وذلك أن ثمامة بن أثال الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلى الله عليه وسلم إلى بني بكر ابن كلاب فاسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمراً فلما قدم بطن مكة لبى وهو أول من دخلها ملبياً ومن هنا قال الحنفي‏:‏ ومنا الذي لبى بمكة معلنا *** برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

فاحذته قريش فقالوا‏:‏ لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال‏:‏ أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلى الله عليه وسلم والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً حتى أضر بهم الجوع وأكلت قريش العلهز فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل، وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ألست الخ، ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل‏.‏ وعندي أن ‏{‏لَوْ‏}‏ تبعد هذا القول كما لا يخفى، نعم أخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب‏}‏ إلى آخره فيكون الجوع مراداً من العذاب المذكور فيه على ذلك، ولا يرد على من قال به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا استكانوا‏}‏ فما خضعوا بذلك ‏{‏لِرَبّهِمُ‏}‏ لأن له أن يقول‏:‏ المراد بالخضوع له عز وجل الانقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منه في شيء، والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر، ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ به أيضاً لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا هم يجأرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ إذ له أن يقول‏:‏ الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفاً من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات، وقيل‏:‏ ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلاً، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا هم يجأرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ أيضاً، واستكان استفعل من الكون، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا، وقال أبو العباس أحمد بن فارس‏:‏ سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني‏:‏ هو مشتق من قول العرب‏:‏ كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله‏:‏ وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح

وقوله‏:‏ أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الأذناب

واعترض بأن الأشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد كونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه اشباع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ من عذاب الآخرة كما ينبىء عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي، و‏{‏حتى‏}‏ مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل‏:‏ هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد ‏{‏إِذَا هُمْ فِيهِ‏}‏ أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال ‏{‏مُّبْلِسُونَ‏}‏ متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة كَرِهَ المجرمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 75‏]‏ وقيل‏:‏ هذا الباب استيلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير‏.‏ وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر‏.‏ وروت الإمامية وهم بيت الكذب عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالاً بعيداً، والوجه في الآية عندي ما تقدم، والظهار أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها اخباراً عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

وَهُوَ الَّذي أَنْشَأَلَكُمُ السَّمْعَ والأبصار‏}‏ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية ‏{‏‏}‏ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية ‏{‏والافئدة‏}‏ لتتكفروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع، وقدم السمع لكثرة منافعه، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر، وقيل‏:‏ أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات‏.‏ وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ أي شكراً قليلاً تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ على أنه صفة مصدر محذوف، والقلة على ظاهره بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات، وقيل‏:‏ هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء، والأولى عندي كونه للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر؛ و‏{‏مَا‏}‏ علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الارض‏}‏ أي خلقكم وبثكم فيها ‏{‏وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء ‏{‏وَلَهُ‏}‏ تعالى شأنه خاصة ‏{‏اختلاف اليل والنهار‏}‏ أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم‏:‏ فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصاً، وقيل‏:‏ المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏ على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين، وقيل‏:‏ على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا‏:‏ ‏{‏مِثْلَ مَا قَالَ الاولون‏}‏ أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا‏}‏ البعث ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت، ويجوز أن يكون متعلقاً به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالاً من آبائنا أي كائنين من قبل ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما هذا ‏{‏إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد‏.‏ وجماعة، وقيل‏:‏ جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لّمَنِ الارض وَمَن فِيهَا‏}‏ من المخلوقات تغليباً للعقلاء على غيرهم ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جوابه محذوبه ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به‏.‏ وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى‏.‏

ويقوى هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه بسحانه خالقها فاللام للملك باعتبار الخلق ‏{‏قُلْ‏}‏ أي عند اعترافهم بذلك تبكيتاً لهم ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانياً فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول‏.‏ وقرىء ‏{‏تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ على الأصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السموات *السبع وَرَبُّ العرش العظيم‏}‏ أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعاً لمحله من أن يكون تبعاً للسموات وجوداً وذكراً‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏العظيم‏}‏ بالرفع نعتاً للرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ قرأ أبو عمرو‏.‏ ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل‏:‏ من صاحب هذه الدار‏؟‏ فقيل‏:‏ زيد كان جواباً عن لفظ السؤال، ولو قيل‏:‏ لزيد لكان جواباً على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار‏؟‏ لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم، أنشد صاحب المطلع‏:‏ إذا قيل من رب المزالف والقرى *** ورب الجياد الجرد قلت لخالد

وأنشد الزجاج‏:‏ وقال السائلون لمن حفرتم *** فقال المخبرون لهم وزير

‏{‏قُلْ‏}‏ إفحاماً لهم وتوبيخاً ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء‏}‏ مما ذكر ومما لم يذكر؛ وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر، وقيل‏:‏ المالكية والمدبرية، وقيل‏:‏ الخزائن ‏{‏وَهُوَ يُجْيِرُ‏}‏ أي يمنع من يشاء ممن يشاء ‏{‏وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ‏}‏ ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحداً، وتعدية الفعل بعلى لتضمينه معنى النصرة أو الاستعلاء ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه ‏{‏قُلْ‏}‏ تهجيناً لهم وتقريعاً ‏{‏فأنى تُسْحَرُونَ‏}‏ كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحوراً مختل العقل لا يكون كذلك، وهذه الآيات الثلاث أعني ‏{‏قُل لّمَنِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏]‏ إلى هنا على ما قرر في «الكشف» تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها، وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ تغليباً للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع، وقيل‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏ تصويراً وتخييلاً وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولاً بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خعد عقولهم فتخيل الباطل حقاً والحق باطلاً وأنى لها التذكر والخوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ أتيناهم بالحق‏}‏ إضراب عن قولهم ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 83‏]‏ والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل‏:‏ ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق‏.‏ وقرىء ‏{‏بَلِ‏}‏ بتاء المتكلم‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحق بتاء الخطاب ‏{‏عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 83‏]‏ أو في ذلك وقولهم بما ينافي التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ‏}‏ لتنزهه عز وجل عن الاحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ يشاركه سبحانه في الألوهية ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ‏}‏ أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفاً وامتاز ملكه عن ملك الآخر ‏{‏وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري فيما بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحداً منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفاً كذا قيل، ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي لا عقلي ولذا قيل‏:‏ إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي‏.‏

وفي «الكشف» قد لاح لنا من لطف الله تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه، وتقريره أن مرجح الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الانتفاء لإيذانها بالإمكان، وأما التعدد مع الاتحاد في الماهية فكذلك للافتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان، ثم المميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الاتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة، وكذلك الافتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان‏.‏

ومن هنا قال العلماء‏:‏ إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الاختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحاً أي لا يكون الإله إلهاً لأن كل واحد واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم توارد العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الاستحالة فكونه مرجحاً إلهاً يوجب افتقار إليه وكون غيره مستقلاً بالترجيح يوجب الاستغناء عنه فيكون مرجحاً غير مرجح في حالة واحدة، وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضاً مرجحين مع ما فيه من العجز عن الإيجاد والافتقار إلى الآخر، وإن اختص كل منهما ببعض مع أن الافتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الافتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكناً والكلام فيه عائد فيلزم الحال من الوجهين الأولين أعني الافتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما، وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ‏}‏ وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض، وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة، وإلى الثاني الإشارة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ أي إما مطلقاً وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلاً وهذا لازم على تقديري التخالف والاتحاد والاختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر، فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجده زائداً على الماهية أولاً فاعلاً بالاختيار أولا، وليس برهان الوحدة مبنياً على أنه تعالى فاعل بالاختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس سره انتهى، وهو كلام يلوم عليه مخايل التحقيق، وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل الصادق‏.‏

وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جداً على ما ذهب إليه الفراء فقد قال‏:‏ إن إذاً حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ لو كان معه ءالهة كما تزعمون لذهب كل الخ‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون ‏{‏لَذَهَبَ‏}‏ جواباً له، والتقدير والله إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 51‏]‏ أي ليظلن لأن إذاً تقتضي الاستقبال وهو كما ترى، وقد يقال‏:‏ إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذاً الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب الخ، والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم، وقيل‏:‏ ‏{‏كُلُّ إله‏}‏ لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس و‏{‏مَا‏}‏ في ‏{‏بِمَا خَلَقَ‏}‏ موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه‏.‏

وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى‏.‏ ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للاكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل إن ابن الإله يلزم أن يكون إلهاً إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك، وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية‏.‏ وقرىء ‏{‏تَصِفُونَ‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏